في أصيل يوم ربيعي متألق , حطت فوق غصن الكآبة الفارع , فراشة الزعتر الجبلي الوديعة ’’بشير الخرشوفي’’. من المؤلم حقا وصفه بالجنون, أو مناداته بالمعتوه..فهو مختلف عن تلك الفئة التي يحنو عليها كل ذي كبد رطب , ويخشاها , وترتعد منها الصبية وتطاردها , لما يتوقع منها على الدوام من تصرفات نزقة وغير محسوبة. إنه فتى في روح طفل. هزيل إلى حد نتولى فيه حمايته من خشونة الصغار. حماقاته رشيقة وناصعة البياض . وما ذلك إلا لكونه فراشة .! ليس بإمكانها الحاق الأذى بأي كان , وكلماته بالغة العذوبة وإن كانت تستثار من أعماق جذور غضبه الصبياني .لكن هذه الفراشة النحيلة , راغبة على الدوام في إثارة الخصومات التى ما فتئت تكلل مفرقها بتاج الخسران .! يتشابك شعره الأجعد الكثيف فوق رأسه الصغيرة ,وترتسم من خلال فروته تجاعيد عديدة ومتوازية , هي خطوط محاريث في ربوة جبسية الأديم.عينان كبيرتان وجميلتان تشربان وجوه الحاضرين بنهريهما المتدفقين, وحاجبان معقودان يظللان أهدابه الفحمية, كأنهما الأكمة السوداء. أنف دقيق ومنحن..يوشك يلتقط به الحب, و تلك الشفاه العجيبة, مركز العبط المطلق.. لولاهما لكان أعقل العاقلين..واسعتان ورقيقتان...يضحك فتبدو أسنانه البيضاء كلآلئ منضدة في طوق ساحر. يخبط كفا بكف, فيحدث فرقعة مدوية لا تتلاءم مع وداعة جسده الخيزراني, وتنفجر منه حركات رعناء , هي علامة النصر الحاسم على الخصم الموهوم.. وعندما تنهال عليه العبارات الساخرة من كل حدب , سرعان ما يطفئه الأسى وتجلله التعاسة , فتنفد البهجة من شفتيه ,ويتلاشى النصر المزيف ...لتستقر الهزيمة في قاع روحه..غير أن الحركات الرعناء تسعفه بمدد مستديم:حركات دونكيشوت ..فيعمد الى سلاحه الذي لا يرحم... يوغل حاجباه في تقوسهما وانعقادهما المكظوم ويمط شفتيه, حتى أن الرائي من أحد الجانبين في إنارة خافتة لا يعلم أيهما أكثر ارتفاعا ,هما أم أنفه الأقنى,؟ في غضب لا مثيل له , يشير الجميع بحزم بسباباتهم إلى سلاحه الرهيب....فيضطره ذلك على مضض الى ابتلاع فلقتي منقاره الطويل, ويزمهما حتى تبدو أسنانه مرئية من تحت لحاف بشرته الرقيقة الشاحبة, فترتعشان, مطبقتين على ضحكة مقهورة توشك تتملص من سطوته . وقد حدجنا بنظرة خاطفة من طرف خفي , منفجرا بقهقهة مجلجلة . تغمره في إثرها يد الرضى , فيلوذ بصمت مفاجئ مهيب , وكأن شيأ لم يكن. يحب المال حبا تبرق له مقلتاه, وتستهويه القطع المعدنية الأكثر تفاهة , يكنزها في زوادته القماشية المضحكة البالية. وتتدلى من عنقه ودعات كبيرة معقودة في تمائم لترد كيد الكائدين.! يهل علينا وقد أطلق العنان لصوت الفن من مذياعه السعيد على الدوام . فيهتف الجميع بأن الحزن قد زال...استطاع هذا المهرج أن يبث في هذه العائلات, التي تشكل قبيلة من الأبناء والحفدة والأجوار , روح الجنون الخفي , أليس في أي كائن عاقل نسبة ...من الجنون يداريها . جاء يرش نداه على زهور طفولتنا الغاربة..رسم لأرباب العقول المتوجسة ,ذات الظنون, فردوسا يتحلقون فيه , سخر من تنافرهم المحير, وأفكارهم المتصادمة, رافعا الستار عن مسرحه العرائسي البهيج. ومن ذلك التاريخ لم تنقطع المسامرات التي شكل الخرشوفي درة مجلسها. مرت سنوات عديدة برزت لدى الجميع طفولة مكبوتة, انحسرت بادئ الأمر مسلطة عليه, واتسعت دائرتها مع مرور الأيام لتصبح طوق نجاة يتمسك به الجميع . بدا الأمر وكأن تلك الأدمغة كانت تشكل سدا منيعا أمام المشاعر المقدسة, والأخوة الخالصة. لعل العقول تمتك دوما القدرة على تدمير العواطف النبيلة, أكثر من قدرتها على التصدي للرغائب السفلية.؟!.فصار الصفاء والانطلاق بشرعته دستورا طفوليا لا يمس. لذلك أحببته كما لم يحبه أحد, ودرأت عنه المخاطر والاستفزازات .وحين رافقني إلى الشاطئ لأول مرة في حياته بدى مذهولا, وجميلا كسمكة, و ’’هل أغرب من سمكة لا تعرف البحر’’.ألقي على مسامعه القصائد فيطرب كما لا يطرب عاقل .! ويعيد بصياحه القافية منغمة:الهبوب, الغروب, الحليب,ملوحا بإبهامه الى فمه الظمآن المفتوح علامة شرب الحليب من القصيد.؟
في إحدى الليالي , كانت الغرفة الواسعة في المنزل الكبير, تزدحم على مهل بالوافدين ...ولم يكن مردد القوافي قد آب من رحلته الاخيرة الى الريف, حيث يقضي الليالي الطوال في حضن الجبال وينام في الكهوف وتحت ظلال الزياتين , يرتل القرآن على طريقته الخاصة , ويشدو بأهازيج هي مزيج بين مقاطع حقيقة وأخرى يقوم باختلاقها . قي غيابه لم أكن أفكر في التسلي بالسهر. فالأطفال والفوضى يجعلان المكان لا يطاق. لكنها أحكام القدر , فقد دفعتني يد خفية الى هنالك....كان من الصعب وأنا أبادر الجميع بالسلام , أن ألحظ الزائرين الجدد , ألقيت سلاما شاملا ملوحا براحتي , وتحسست طريقي بحذر لأقرب مكان أمكنني الاندساس فيه , كنت أستجمع عواطفي وضياعي لتتراكم فيا اللحظات, وترفع عني سلطة الاهتمام بالوافد الجديد. جازفت بنظرة عجلى أستجلي خبايا المكان.. الأجواء ثقيلة وكانت تلك ميزة يتحلى بها المجلس عندما يفد عليه أناس غرباء .....يهب الجميع رغبة في التعرف عليه....وتشحن بالصمت والفوضى المريبة النظرات والأنفاس. كنت أعتقد أن غياب فراشة البراري الرقيقة كان السبب الكامن وراء زوال البهجة من الساهرين, لكن الفوضى الطفولية المعطلة كانت تخفي ذهنا حذرا ومتوقدا لم تتمكن يد المهرج الأعظم من بذر روح البراءة فيه بعد ......بدا وكأن الأمر متعلق بحاسة إضافية نادرة لا طاقة للرائع الخرشوفي البعيد بمجابهتها !!!...كان الوافد الجديد فتاة في الثلاثينات من عمرها على وجه التقريب , ما كنت لأمتدحها بأية نعوت تسر..؟! ....لكني مكره على التعريف بها. إنتبهت قبل التقاء نظراتي بملامحها الصافية إلى شحنة من العداء, غير مبررة ...تتكسر في المجال القريب من وجهها, بل ربما من مكان تواجدها أيضا . بدا ذلك شبيها بهالة قمرية..؟! وعند وقوع بصري على تقاطيع وجهها وبشرتها البيضاء وعينيها الزرقاوين .....سطعت روحها المتسلطة الآمرة كضوء باهر لمصباح كشاف..قد انهال فجأة على عيون يمامة غافية . وحدهم المتسرعون يحبون ويكرهون لمجرد نظرة..... لقد كنت أشعر في عديد المرات بنفسي مالكا لهذا الانطباع الظالم , والذي كنت أمارسه بخجل وجداني, دون القدرة على التحكم فيه أو توجيهه...وها أنا الأن أصطلي بناره الملتهبة. لم أكن قد بادلتها السلام باليدين...أيكون ذلك ذنبي..؟ هل أكون شبحا رأته في أضغاث أحلامها...؟ أو ذلك المخلوق العجيب الذي إصطنعه فرانكنشتاين وأرسله الى المجهول....؟ لم لا أتجاهلها , حيث تمكن الجميع من الشعور بانصهارها داخل طاحونة العادة المتكررة. إلا أنني لا زلت أشعر بها كحبة قمح عصية عن الذوبان في قلب الرحى. أتملص من عينيها لكنني مع مرور الوقت ألفت الانخساف تحت نظراتهما الماحقة....وكلما رحت الى زنزانتي فيهما صوب حبال المشنقة ..,كلما زادت طيبتي وذهولي أمام نداء الموت...........فاندفعت بعصبية مجيبا على كل سؤال ممن يرغب في اشراكي بالمزاح والحوارات الخاطفة ,ليتسنى لي إشعاره... و ستكفيني الإيماءات الخرساء ,إن لم يسعفني لساني ... وأن الطفل الذي يسكنني سوف يقتل , وماعليهم الا الإعلام ...لكن إعلام من ؟........لست أدري......ها أنا ذا أخيرا أحاول تجاهل الأمر برمته, وسوف أكون متألقا كأحسن أيامي الخوالي, مع هذه الأجواء الذائبة بالمزاح و الفرحة التي لا يستقر منها في قلبي شيء........وليس أمامي في النهاية غير هذين الخاتمتين.......إما الإسراع التام والحاسم بتعليقي في الحبال الغليظة الباردة لطوق مشنقتها التي تنتظرني.........أو إعطاؤها صورة مخالفة عني , لن تصل بها بالمطلق إلى التبسم في وجهي.......بل من المؤمل أن تنزل بي درجة تحت مستوى الغليان والإنفجار المرتقب . حاولت جهدي أن أكون رصينا ,وأن لا أتسرع في جني الثمار ,عسلا كانت أم صابا . لكن هل تكفي أويقات من الزمن المختنق لتحسين صورتي المرعبة لديها...؟ كانت الأمور تسير على كل حال. وقدرت مدى حظي , اذ لم يكن تشاؤمي دوما بالغ القتامة..... فالسبل إلى الانسحاب مقطوعة , وقد احتدت الرغبة الجامحة في الموت السريع أو الحياة ... في نهاية جلستي الغريبة هذه. قليلا ما كان البعض يجادلها فيكسر حدة التركيز في حدسها الذي ميزني كضحية دون سواي!!!, ولم تكن هي تعرف تمام المعرفة غير زميلها في العمل الذي قدمت برفقته: زوجته تسعد دوما بهذه الزيارات التي يقوم بها بعلها مرفوقا كل مرة بموظفة جديدة وأنيقة..وكأنها تعده لزفافه !. أما من قربان غيري لهذا العرس التعيس ؟ !
صارت هجوماتي على ذاتي أكثر شراسة مما تفعله هي بي. قلت في سري الذي صار مدويا كالعلن, إن الذين يكرهوننا يكونون دوما على حق....فلماذا نحب نحن! ما من أمر يدعو أحدا من الخلائق لمبادلتنا المحبة......انها كلمة كبيرة وآسرة.....والكره مباشر وسهل, وتصنعه أفعال صغيرة خلال ثوان ليولد عملاقا يكبر ويسير على وجه الغبراء دون تعثر. يمسح المدن بحذائه الجبار الممزق...إن الذي يكرهنا قد يكون اطلع الغيب و أدرك أننا نستحق ذلك...... بذلك يكون مطلعو الغيب حقا أناسا مذهلين .أما المحبون فحتما أناس حمقى , يحترقون بمشاعر لا معنى لها , لا معايير لديهم.....كما قيل ’’مما أضر بأهل العشق أنهموا هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا’’ . وعندما يدركون سوف يتساقون كؤوس البغضاء مترعة. ألسنا نرى.......أشتاتا من المتوادين, على بغضاء...... فجميع الذين أراهم أمامي, مجرد إطار أحب أن أرى فيه كل من هم أقرب الى روحي. طرحت منه العديد من الذين كنت أعتبرهم خلانا أصفياء, وها أنا الأن في مرحلة من التمحيص لا تنتهي.....تخترقني تلك العين الزرقاء المؤذية حتى لتكاد تفرغني من مكنون توق النظرات الذي خزنته منذ صباي , لمجابهة الكآبة الكامنة في أعماقي....فتحملني على إجهاد مفرط لمداركي حول ما يجري .أين مني الأن تلك الغفوة الناعمة ,طمأنينة الرضيع في المهد, لعلها لن تؤاتيني بعد اليوم ؟ . تحرقني الوساوس لأغدو عقلا بحجم إنسان . إن ذلك حتما هو موتي الأخير والملتبس علي إدراكه. إنها درجة من الصحو وغياب الحلم أكبر مما أطيق... .فلقد كنت دوما كثير الأحلام في نومي ويقظتي...كأني أعيش موصول الليل بالنهار.......لكن ما دمت أرى أحقيتي بأن أكون محبوبا , فمن حق المشاعر علي أن أحتمل النقيض........وإنهما حتما لن يلتقيا أبدا في ذات اللحظة بداخلي. بل سأشرع أبواب قلبي مباشرة في اللحظة التي تليها وبكل ممنونية وطاعة لعدوي الجديد..فان له الحق في ممارسة طقوسه المسلطة على وجداني المنهوب.
عندما ..هل فجأة مردد القوافي بصخبه المعهود وسط صياح الأطفال, كان حد السيف قد سبق العذل . فقررت أن عمل جاهدا على الفصل بين المسارين , خوفا من أن يذهب القبح بالجمال أو الجمال بالقبح.... وسوف أفرد لفراشتي الزاهية, وهذه النحلة الغاصبة مسار تجوالهما المتداول في ربيع دمي.....وأنا أرى الوجه الآخر المرعب لجمال جناحيها الوادعتين في صفاء مياه الغدير . 22/10/2010