كانت «ميار» تبكى.. وكان عقله يستقبل بكاءها بمزيد من الخوف والقلق، تلك طفلة لم تتجاوز عامها الثالث، اسمها
مقرون باسمه، ومستقبلها مرتبط بجهده، ذلك الجهد الذى لم يبخل به عليها يوماً، فخرج من قريته بحثاً عن الرزق، كان
يفتش عنه فى كل مكان، ويتشبث به حين يجىء، ويحمد الله عليه حين يستمر، وينتظر بإيمان غيره حين ينتهى.
علَّمته الكتب المدرسية أشياءً ظلت عالقة فى ذاكرته، خصوصاً قصة بناء الأهرامات الثلاثة، وما صاحبها من أقاويل حول
إجبار الملوك والفراعنة فى ذلك الوقت لعموم المصريين على العمل فى بناء الأهرامات بالسُّخرة، ودون أجر، فكله يهون
مقابل أن يطمئن فرعون على بناء القبر الذى سيؤوى جسده وكنوزه وذهبه، وسيصعد به إلى العالم الآخر.
.
ولم يكن درس الأهرامات وحده الذى بقى عالقاً فى ذاكرته من كل ما درس، كان درس حفر قناة السويس أشد حضوراً
ربما لقربه زمنياً، لكنه كان يشعر أن السياط التى ساقت الكادحين من أجداده لحفر القناة سُخرة طالته، وربما اعتقد أن
وجع ظهره الذى لازمه طوال عمره الذى لم يتجاوز الـ٣٥ عاماً من آثار هذه السياط.. مات مَنْ مات من أجداده واحتفل
الخديو إسماعيل بافتتاح القناة، جمع الملوك والأمراء من كل العالم، شربوا الأنخاب دون أن يفكر أحدهم أن أسفل الماء
آلاف القبور.
كان يعرف أن هناك تشابهاً ما بينه وبين أولئك الذين بنوا الأهرامات وماتوا تحت حجارتها، ولفظوا- بتأثير سياط
العسكر- أرواحهم وهم يحفرون للخديو مجده، وماتوا فى قاع المجرى الملاحى حين التقت مياه البحرين.
عندما كان يسأل نفسه عن شكل هذا التشابه بينه وبين بناة الأهرام، أو أجداده الذين حفروا القناة، لم يكن يجد إجابة شافية،
لكنه صباح يوم السبت ٢٤-١-٢٠٠٩ ربما عرف تحديداً إجابة سؤاله، حين توجه كعادته كل صباح إلى موقع عمله فى
مشروع «مدينتى»، حيث كان يشارك فى زرع الصحراء بمدينة حددت سكانها من البداية.
يومها، وعندما دقت الساعة التاسعة صباحاً كان يمارس عمله المعتاد بإحدى العمارات، وسقط من الطابق الرابع جثة
هامدة.. أخيراً عرف الرجل إجابة سؤاله، وعرف ذلك أكثر حين اكتشف أنه مات بلا ثمن، ودون أن يضمن لطفلته
«ميار» أى حق فى الحياة.. لا معاش ولا أمان ولا شىء.
مات الرجل فى موقعه من أجل أناس لم يكترثوا به، بل الأدهى أنكروا أنه مات من أجلهم وفى موقعهم، ومن أجل إنجاز
مشروعهم، قالوا: «كان عامل يومية يتبع مقاول أنفار».. هو بالنسبة لهم مجرد رقم فى «سَرْك».. لا يعرفون إلا
المقاول الإسكندرانى الذى جلبه إليهم مثل تجار النخاسة، ثم تركه بعد موته، وضميره أكثر راحة لأنه صرف له «يومية»
اليوم الأخير.
هكذا تُبنى المشروعات الكبرى فى بلادنا.. مهمَّشون يعرقون، وأثرياء يسكنون، وكبار يُكدّسون الثروة.. عمال بلا حقوق
تجبرهم قسوة العيش على التفريط فى أبسط معايير الأمان فى العمل، ويجبرهم أصحاب عمل لا همَّ لهم إلا زيادة هوامش
أرباحهم على الدخول فى مغامرات البديل عنها هو الجوع، وتجبرهم حكومة تخلت عنهم- وحاولت دفعهم للعمل فى
القطاع الخاص دون أن توفر لهم غطاءً من الحماية، وقوانين تطبق بصرامة على الجميع دون استثناء- على قبول
«سخرة جديدة».
عندما تزور الأهرامات لا بد أن تتذكر أنه بناء صعد على جثث الكادحين، وعندما تقف على شاطئ القناة فلابد أن تشم
ريح الفلاحين الذين حفروها وماتوا وهم يحفرون، وعندما تسكن فى «مدينتى» فلابد أن تتذكر أحمد جودة وعشرات
غيره.. ماتوا أسفل منك.. وطمس ذكراهم أسفلت الشوارع.