فيها عرفنا الآشوريين والبابليين والهنود واليونان والرومان والعرب إنها موجودة باستمرار قد يشتد الشعور بها فتكتسب قوة تجعلها فاعلة في التاريخ وهي ظاهرة واضحة تماماً للآخرين بل أنها اتطغى على بقية الظواهر المعايشة لها أو قد تضعف فتطغى عليها قوة اخرى هي اكثر منها قوة وفعلية وحيوية واحياناً تعمل على تنحيتها قوة المرجعيات التقليدية من متحدات عشائرية وقبلية وطائفية ومذهبية بيد انها في كل حالات الحصار التي تفرض عليها ، لن تتلاشى أو تنعدم بل تظل في حالة كمون تتحين الفرص دائماً لتبرز على السطح من جديد ..
[size=16]- الجذر التاريخي لمفهوم القومية لدى العرب :
[size=16]لم يشكل الفكر القومي عند العرب حتى نهاية القرن التاسع عشر نظاماً أو عقيدة تم تركيبها أو استخدامها في حالة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي بل ظل هذا الفكر وبخاصة عند حوامله الاجتماعية من رجالات عصر النهضة أقرب الى ان يكون رؤى ومواقف ولكونها كانت في معظمها ايضاً جزءاً من رؤى فكرية استمدت اصلاً من الفكر الغربي بفعل الاحتكاك الذي زاد في ذلك القرن وبخاصة في النصف الثاني منه لذلك غالباً ما يكون يحكمها الهاجس والتردد والتساؤل أكثر مما يحكمها المنطق وقوانينه .. من هنا جاء الفكر القومي في صيغته هذه مطابقاً للتاريخ العربي في ظل الدولة العثمانية لقد كان الفكر القومي يعكس في حقيقة امره واقعاً مشوهاً ومجزوءاً وهجيناً لم تتوضع ملامحه بعد ..
[size=16]ففي اوروبا استطاع الفكر القومي أن يعكس واقعاً تاريخياً له سياقه النظري القائم على قاعدة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية مطابقة له .. أي استطاع ان يعكس ذلك التطابق الايجابي بين الوعي والتاريخ وأن يتحول الى قوة مادية عملت على تشكيل وصياغة مجتمعات مطابقة له .. بينما ظل العرب يشكل اشكالية نظرية وسياسية لم تجد تحولاتها التاريخية بالشكل والمستوى الذي يساهم في تحويلها الى واقع ملموس أو رفعها من مستوى الحلم والمطلب والطموح الى حيز الصيرورة والفعل ..
[size=16]ومن يتتبع تاريخ الامة العربية يجد صعوبة في تحديد بداية لهذا التاريخ إنه مسيرة متصلة من بدايات متفرقة في الزمان والمكان فهذا التاريخ يبدأ من مجموعات بشرية مبعثرة هنا وهناك ربما تكون حققت هنا كياناً سياسياً واحداً بينما نجدها هناك موزعة بين كيانات عدة ..
[size=16]في طبيعة الحال نستطيع القول : بأنه قبل مجيء الاسلام كانت العشيرة والقبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية في المجتمع البدوي لها عصبيتها التي تشد ابناءها بعضهم لبعض ..
[size=16]أما في المجتمعات التي حققت استقرارها كما هو الحال في ( مكة وسبأ ودول بلاد النهرين ) فإن طبيعة العلاقات الانتاجية المتطورة بالنسبة لعصرها كالزراعة والحرفة فقد ترتب عليها تشجيع الروح الفردية من جهة وتعديل الطبيعة العشائرية والقبلية من جهة فالنفوذ الاجتماعي تطلب هنا الجمع بين المال وشرف النسب وهذا ما ساعد تضييق الرقعة الاجتماعية مع مجيء الاسلام جاءت العقيدة فتكون لدى العرب شعور برسالتهم بعد ان وحدتهم تحت ظلالها بدل توحدهم تحت ظلال العشيرة والقبيلة لقد اراد الدين ان يجعل من العقيدة بديلاً عن عصبية الدم والشريعة بديلاً عن العرف والعادة فخلق هنا فكرة الامة الاسلامية القائمة على اساس العقيدة فراحت عبرهذا التوحد تتشكل ملامح جديدة لوعي الذات لدى العرب على انهم امة خيرة وحملة رسالة انسانية تدعو الى الخير والمحبة والعدل بين الناس .. نعم بالاسلام توحد العرب وبه انطلقوا لتشكيل امبراطورية شاسعة اعادت تشكيل الاطار الجغرافي والبشري للعرب من جديد بعد هجراتهم شمال وغرب الجزيرة العربية ..
[size=16]مع مجيء الامويين راحت فكرة العروبة والعروبية تتجذر في سياسية الدولة بالرغم من الصراع الذي ظل يدور ما بين القيسية واليمانية .. ومع وصول العباسيين الى السلطة دخل الاعاجم السلطة السياسية فكانت الحركة الشعوبية وكانت ردود الفعل عليها هذه الردود التي شكلت بداية الخطاب القومي السياسي حيث راحت النخب العربية المثقفة ولأول مرة تؤلف الكتب التي تعبر عن اهمية العرب والعروبة والاسلام فهذا الجاحظ يسطر كتابه :
[size=16]( البيان والتبيين ) وابن قتيبة ( فتوح البلدان ) إن هذه النخب المثقفة استطاعت عبر ردها على الحركة الشعوبية ان تلفت الانتباه ايضاً الى معوقات تشكل الامة العربية .
[size=16]- أما عن مظاهر الفكر القومي العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فلا احد يمكنه ان ينكر ما للدين الاسلامي من اهمية في تحقيق اللحمة ما بين العرب والعثمانيين فالأتراك والعرب كانوا يشعرون بانهم اعضاء في امة واحدة وظل الناس يستعملون لفظتي ( مسلم ومسيحي ) بين فئتين كبيرتين من سكان المنطقة حتى نهاية القرن التاسع عشر .
[size=16]هذا وحتى مفهوم القومية الذي كانت توصف به الاقليات الدينية لم يكن يعني في دلالاته الفكرة القومية التي ظهرت في اوروبا بل كان يعني شيئاً آخر كما اشار الى ذلك احد المستشرقين الاوروبيين بقوله : ( في جميع انحاء الامبراطورية التركية تعتبر الجاليات الدينية / الملل / قوميات متميزة .. إن الفكرة القومية في صيغتها العلمانية لم يكن لها اي حضور أو اثر في التفكير السياسي لتلك الفترة من حياة الامبرطورية العثمانية .. هذا وقد مارست اوربا الاستعمارية عبر التبشير والدعم للاقليات الدينية دوراً ريادياً في العمل على بث الفكر القومي حيث راحت تعمل وفق اساليب متعددة مثل :
[size=16]- تشجيع المسيحيين العرب على التعلم باللغة العربية - تعميم الصحافة و نشرها باللغة العربية -فتح المدارس التبشيرية - ترجمة الكتب المقدسة الى العربية - تغذية روح العداء بين الاقليات الدينية و العرقية مع الدولة العثمانية - ارسال الطلاب المتفوقين في المدارس التبشيرية للدراسات العليا و التأثير بهم ثقافياً في ظل انتشار هذه الاجواء التحريضية راحت تتشكل الاحزاب و الجمعيات و المنتديات السياسية التي تتبنى في شعاراتها الروح القومية و منها ( القومية العربية )...
[size=16]اما عن اتجاهات الفكر القومي :
[size=16]- الاتجاه التحديثي : عمل هذا التجاه على خلق الارهاصات الاولية لتحريض الفكر القومي من جديد لدى العرب و قد شكلت تجربتا كل من ( محمد علي باشا - و خير الدين التونسي ) عبر البعثات التعليمية الى اوروبا حجر الاساس في التأسيس بهذا الاتجاه ...
[size=16]- الاتجاه الليبرالي العلماني : مثل هذا الاتجاه المسيحيون العرب امثال : رزق الله حسون و مرنسيس مراش و غيرهم ... ان ابرز ما يميز هذا الاتجاه هو تعدد و تنوع المواقف الفكرية داخله ثم كثرة التحولات الفكرية التي كانت تنتابه ما بين فكر قومي ووطني و عثماني ثم يسبب تعدد الانتماءات الداخلية و الخارجية لهذا المفكر او ذاك و لموقفه من الدولة العثمانية و لدور الفكر الغربي و تأثيره على توجيهاتهم الفكرية بشكل عام ..
[size=16]- الاتجاه الاسلامي الاصلاحي : كان من اهم اتجاهاته الفكرية العروبية هو طرح مفهوم الخلافة العربي و فصل الدين عن الدولة و تأكيد الوحدة الوطنية على حساب الخلافات العرقية و الدينية و المذهبية و اظهار ردود العرب في التاريخ ...
[size=16]اما ابرز من مثل هذا التيار منهم : ( رشيد رضا - الكواكبي - عبد الحميد الزهراوي و غيرهم )
[size=16]- الاتجاه القومي العلماني الليبرالي : شكل هذا الاتجاه حالة متنامية خاصة بعد انقلاب /1909/ الطوراني و كان من ابرز ملامح هذا التجاه العقلاني تأثير الفكر القومي الاوروبي فيه - لقد ركز دعاة هذا التيار على دور اللغة لا لكونها لغة دين فحسب بل لكونها قوة تستطيع ان تثبت في نفوس ابنائها حب الوطن و بذلك قدموها اطار هذا التيار بدور ( الفكرة ) كقوة قادرة بديلاً عندهم عن العصبية الدينية لقد آمن اصحاب هذا التيار بدور ( الفكرة ) قوة قادرة على الخلق والابداع في المجتمع وبذلك أصبحت العربية عندهم يجب أن يضحى في سبيلها اما ابرز من مثل هذا التيار و كانوا قلة منهم :( عبد الرحمن الشهبندر - و كرد علي - القواسمي ) ..
[size=16]الفكر القومي في القرن العشرين :
[size=16]- مع بداية القرن العشرين استمرت الاشكالية ذاتها و لم يستطع حملة الفكر القومي العربي خلال هذا القرن و حتى العقد السابع منه تقريباً ان يصلوا الى تأكيد حقيقة ان الفكر القومي بشكل حركة تاريخية مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية اي انها حركة طبقات و قوى اجتماعية لها مصالحها و ليست حركة شعبية لجماهير غير مسيسة لذلك ظل الفهم العاطفي هو السائد في خطابهم اضافة الى سيادة الروح الغربية المعبرة عن هذا الفكر بصيغته البرجوازية ... و هذا ما ابقاه فكراً نفلا بعيداً عن الواقع لم يجد له المرتكزات الواقعية و العملية التي يؤكد فيها ذاته كفكر قادر على تحريك الواقع و تطويره..
[size=16]- وإزاء هذه الوصاية على الجماهير التي فرضتها طبيعة الظروف الموضوعية و الذاتية المعاشة .. لم تستطع هذه النخب عملياً ان تحقق اهداف الجماهير التي حملت مشروعها النهوضي و راحت تدافع عنها في الداخل و الخارج معاًاضافة الى ان قسماً كبيراً من هذه النخب راح يمارس هو نفسه عداءه لهذه الشعارات عبر الممارسة و خاصة تلك الشعارات العريضة مثل : التخلص من بقايا الاستعمار و تحرير فلسطين و اقامة الوحدة العربية و خلق القاعدة الثقافية للجماهير وتمدين الامة و خلق تنميتها و رفع غائلة الفقر و الحرمان عنها و محاربة التعصب الديني و اقامة دولة القانون هذا بالإضافة إلى أن كثير من الاحزاب التي تبنت الفكر القومي لم تستطع التعامل بعقلانية مع هذا الفكر إلا بحدود تحويله إلى ايديولوجيا تنموية وتعبوية لمواجهة الأخطار المحدقة بالأمة بعيداً عن مقدماته الموضوعية والذاتية وظلت محاولات طرحه قائمة من الأعلى كايديولوجية تعبوية..
[size=16]وفي ختام المحاضرة قام الباحث الاستاذ عدنان عويد بقراءة أولية تناولت الفكر القومي العربي منذ نشوئه حتى نهاية القرن العشرين وسلط الضوء على أبرز المواقف في تلك الفترة ولم يغفل عن الدور الايجابي لبعض دعاة هذا الفكر من مفكري النصف الثاني من القرن العشرين في الساحة الثقافية العربية أمثال رئيف الخوري والياس مرقص وياسين الحافظ حيث استطاعوا ان يربطوا هذا الفكر بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للجماهير ليجعلوا منه فكراً يسعى لمطابقة الواقع.