اللوحة الثالثة
ديزي : قال بالحرف الواحد يجب أن نتبع
عصرنا...كانت تلك آخر كلمات
بشرية قالها ..
مسرحية : الخرتيت
يوجين يونسكو
(المدينة نفسها: سوق تظهر فيها مكاتب عديدة. كتب عليها: مكاتب مناهضة الحيونة. وهي محلات متشابهة الأحجام. مختلفة الألوان. يجلس أمام كل منها مناد، أو منادية يرفعون أصواتهم بالنداء، أو يؤدون بعض الحركات للدعاية والإعلان)
بائع1 : ضد الحيونة .. ضد الحيونة.
بائع2 : ضد الحيونة يا رفاق.
بائعة : (بدلع وغنج) قرب وجرب الأنسنة يا حباب.
(تعلو الأصوات وتتكرر بشكل متفاوت في الشدة
أحياناً، والرتابة أحياناً أخرى. يدخل الحمار وهو
يهرول، يتبعه جحا يلهث من شدة التعب نتيجة
مطاردته للحمار)
جحا : (غاضباً) أقسم أني سأضربك، أنا أنهق ؟!
الحمار : (يضحك) ..
جحا :اضحك كما يحلو لك، ولكنني لن أرحمك عندما أمسك بك. سأحول ضحكك هذا إلى عويل.
الحمار : هدئ من روعك يا أخي.
جحا : لا تقل يا أخي. أنا لست أخاك.
الحمار : حسن يا صاحبي، يا صديقي .
جحا : ولست صاحبك، ولا صديقك أيضاً أيها العدو.
الحمار : أنا عدو يا جحا ؟!
جحا : نعم. أنت عدوي أيها الحمار، عدوي الذي يسعى إلى توريطي في فعل مهين.
الحمار : أيُّ فعل ؟!
جحا : النهيق .
الحمار :(يقاطعه) عفواً، النهيق ليس فعلاً مهيناً، إنه الصوت الخاص بي: هويتي يا سيد جحا.
جحا : هويتك ؟!
الحمار : نعم.
جحا : (بسخرية) حمار مثقف !
الحمار : حمار مثقف، خير من مثقف حمار يا فهمان.
جحا : ماذا تقصد ؟ أنا لست من هؤلاء ولا من هؤلاء، أنا، أنا ..
الحمار : من ؟
جحا : (بحيـرة) أنا ..
الحمار : من أنت ؟ هل نسيت من أنت يا جحا .. يا إنسان.
جحا : (بسرور، ثم بضيق) نعم، أنا إنسان، كدت أنسى ذلك.والسبب هو أنت: أنت وزمنك اللعين هذا. أنا جحا المحترم والمحبوب أنى حللت، نصير العدالة، وناشر المحبة والمسرة بين الناس في كل الأزمان و البلاد .. أنهق الآن ..وهنا ؟!
الحمار : عدْ إلى زمنك إذاً.
جحا : وحدي. أعود وحدي ؟
الحمار : نعم، وحدك يا صاحبي.
جحا : لا أستطيع.
الحمار : لماذا ؟
جحا : من دونك لا يمكنني الاستقرار و العيش في أي زمان أو مكان.
الحمار : أما أنا فأستطيع، وخاصة هنا .
جحا : (بحنق) طبعاً تستطيع .
الحمار : كنْ مثلي إذاً.
جحا : (بسخرية مرة) أكون حماراً ؟!
الحمار : نعم.
جحا : لكنني إنسان يا فهمان.
الحمار : لا بدًّ أنك تمزح يا صديقي، أو أنك واهم (بسخرية) "قال إنسان قال" !
(يغني، يصمت جحا حائراً، يلتفت حوله بضيق وعجز، يشاهد المكاتب والمنادين)
جحا : هس ، كفًّ عن النهيق وانظر هناك .
الحمار : (يستمر في غنائه) ..
جحا : اصمت ودعنا نسمع.
(يكمُّ فم الحمار الذي يتأفف، ثم يصمت، تعلو أصوات المنادين)
المنادون : ضد الحيونة .. ضد الحيونة يا رفاق ..
جحا : (بسعادة) اسمع، (بسخرية) "قال حمار قال".
(يقرأ ما كتب على لوحة المكتب بسرور) جبهة ضد
الحيونة. وأخيراً ظهر الحق وزهق الباطل. هيا
يا سيد حمار، هيا نرَ من منا الواهم. كنت أعرف أن ما يحدث لا يمكن أن يكون نهاية التأريخ.
"قال حمار قال" !! (يتقدم نحو المكاتب باندفاع وسرور، غير مبال بصياح الحمار إياه، يلحق به الحمار.ضابط وهو مسؤول جبهة مناهضة الحيونه يلقي كلمة أمام الناس المتجمهرة)
الضابط : أيها البشر، وأقول بشر لأنكم كذلك، ومن يعود إلى التاريخ سيتأكد من أنكم كنتم بشراً،ومازلتم كذلك، ولستم حميراً، أو كلاباً، أو ما شابه ذلك.
(يتأمل بعض المتجمهرين أنفسهم باستغراب، ويتبادلون نظرات الدهشة)
والحيونه التي تعانون منها اليوم: سببها وباء حملته لكم رياح مسمومة قادمة من وراء البحار..هذه الرياح هي التي حولتكم إلى حيوانات.
جحا : حيوانات ؟!
الحمار : هس.
الضابط : وللتخلص من هذا الوباء -وباء الحيونة- ومجابهته، لا بد من إغلاق الأنوف والأفواه بإحكام.
جحا : إغلاق ماذا ؟
الحمار : الأفواه و الأنوف.
جحا : (يسد فمه وأنفه) لكن هذا مستحيل.
الحمار : هس.
الضابط : والعيون والآذان ..
جحا : (بصوت مرتفع) والآذان و العيون أيضاً ؟!
الضابط : وكل فتحة في أجسادكم.
جحا : ما هذا الكلام الغريب يا سيد ؟
(يكمُّ الحمار فم جحا)
الضابط : ما هذا الصوت ؟!
مساعد الضابط : (للضابط) لقد بدأت نوبتهم، ونخشى أن يستفحل الأمر.
الضابط : ابدؤوا الفحص .
(يتدافع بعض المحتشدين )
م. الضابط : بالدور يا جماعة. بالدور يا حمار.. بالدور يا رفيقي.
(ينظم المتجمهرين، ويبدأ عملية الفحص والتشخيص مثل طبيب بيطري، يدور حول المريض، يشد أذنيه، يطلب منه اتخاذ وضعية الحيوان بالنـزول على أربع،ثم نخز خاصرته ..) حيونة مبكرة .. حيونة مزمنة .حيونة جزئية ..
جحا : ما هذا ؟ ما هذا التشخيص ؟!
الحمار : اصمت يا جحا.
جحا : لكن هؤلاء بشر .
الضابط : ما هذا النباح ؟ نباح من هذا ؟
جحا : نباح ؟!
الضابط : هاتوه .
الحمار : اهرب يا جحا .
جحا : لماذا ؟!
الحمار : هيا .
(يقود الحمار جحا من يده ويبتعد بسرعة عن المكان .يقفان أمام مكتب آخر )
الحمار : امش .
جحا : (يقرأ لوحة المكتب) مكتب مناهضة الحيونة.
الحمار : امش يا صديقي.
جحا : جبهة، ومكتب، ما الفرق بينهما يا حمار ؟
(يرتقي صاحب المكتب –وهو مهرج شاب- مكاناً مرتفعاً، يخاطب الجموع المتجمهرة أمام المكتب)
المهرج : أيها السادة، أقول سادة وأنا على يقين تام بأنكم سادة من خيرة البشر، وما هذا الوباء الذي أصابكم، سوى نتيجة العيش سنوات وسنوات في الحظائر وممارسة العنف بحقكم وبحق أسلافكم من قبلكم.
(يتحسس جحا جسده بألم، ويطلق أنة موجعة)
جحا : العنف !!
المهرج : ولاشك أن الخلاص من هذا الوباء لا يكون بكمِّ الأفواه والأنوف.
جحا : هذا صحيح.
المهرج : وإغلاق العيون والآذان، أو أي فتحة في الإنسان.
جحا : (بحماس). أحسنت.
الحمار : اصمت يا صاحبي.
جحا : (يصفق) لا فض الله فوك.
الحمار : ماذا دهاك يا أخي ؟
جحا : لا تقل يا أخي، أنا إنسان، وسترى الآن.
الحمار : (بضيق) حسن يا إنسان.
جحا : أنا جحا، جحا الإنسان يا صديقي العزيز.
المهرج : ولا بدَّ من البدء بعملية معالجة هذا الداء : داء الحيونة. وبأسرع وقت ممكن.
جحا : عظيم.
المهرج : وقد حصل مكتبنا على العلاج الفعال لهذا الداء الذي استفحل في مجتمعنا.
جحا : رائع.
أصوات : (بفرح) هيه..
المهرج : والآن. سيختار مساعدي من بينكم حيواناً .. أقصد: أحد المصابين بداء الحيونة وسيكون ممن تمكن الداء منه تمكناً قوياً.
(يجول مساعد المهرج بين المتجمهرين وهو يتفرس في وجوههم، يدفع جحا الحمار نحو مساعد المهرج بحماس)
الحمار : ماذا تفعل ؟!
جحا : تقدم يا صاحبي، هيا.
الحمار : ولماذا أتقدم ؟
جحا : ليعالجونك، وقد تصبح إنساناً، من يدري ؟ إنه زمن العلم والعولمة، وليس الحيونة.
الحمار : لا أريد أن أصبح إنساناً، لا أريد أن أغير أصلي يا أخي.
جحا : سنصبح أخوة يا حمار.
الحمار : لا.
(يقترب منهما المهرج، يتفرس في وجه الحمار، يقرص جحا الحمار ويدفعه نحو مساعد المهرج)
جحا : هيا يا صديقي، إنها فرصتك.
الحمار : لا.
جحا : ستندم يا حمار.
الحمار : لن أفعل.
جحا : (بحنق) حمار أصيل.
(يتفرس م.المهرج في وجه جحا، يقبض على يده ويسحبه من وسط المجموع)
هيه..ماذا تفعل ؟ أنا جحا ولست ..ماذا تريد ؟! لماذا تحدق في وجهي هكذا ؟!
(يدفع م.المهرج جحا بقوة فيسقط أرضاً، يحاول النهوض،غير أن المساعد يجبره على البقاء في وضعية
الوقوف على القدمين والرجلين، يدور حوله ثم يقبض على إحدى يديه)
ماذا تفعل ؟! لست حيواناً .. أنا جحا. إنسان مثلك.
م. المهرج : انهق.
جحا : أنهق ؟!
م.المهرج : أطلق صوتاً. قل: آآآ.
جحا : (باستغراب وحنق) آآآ.
م.المهرج : كرر النهيق بصوت أقوى.
جحا : أنا لست حماراً، أنا إنسان، أنا .. (للحمار) قل لهم من أنا يا صديقي .
(يلكزه م.المهرج في خاصرته، يشد أذنيه بقوة، يتألم جحا ويطلق أنات موجعة)
الحمار :(لمساعد المهرج ) إنه جحا أيها السيد وليس حماراً.
م. المهرج : جحا ؟!
أصوات : جحا؟ جحا أيام زمان ؟! جحا .. غير معقول !!
الحمار : نعم أيها الأخوة. إنه جحا, وأنا .. وأنا ..
المهرج :(للحمار) لا تعرقل سير عملنا يا أخي. (لمساعده) أكمل عملك أيها المساعد.
(يفحص م.المهرج فم وأسنان جحا، يقدم له الشعير، يضربه على قفاه)
م.المهرج : (للمهرج) انتهى التشخيص يا سيدي.
المهرج : حسن. ابدأ العلاج .
م.المهرج : حاضر يا سيدي.
(يومئ لأحدهم، فيجلب رداءً أحمر اللون،ويجبر جحا على ارتدائه)
جحا : ما هذا ؟ ماذا تفعلون ؟ أنا أرفض .. أنا أحتج.
(يومئ المعالج إيماءة صغيرة لأحدهم، فيتم إدخال ثور معصوب العينين، ترتسم على وجه جحا أمارات الخوف والدهشة)
ثور !! لماذا الثور ؟! ماذا يعني هذا ؟!
م.المهرج : والآن تهيأ للعلاج أيها المريض.
الحمار : علاج ؟! ولكنه ليس مريضاً. إنه إنسان سليم العقل، وصحيح البدن، و..
المهرج : كان إنساناً.
الحمار : كان ؟! ولكن لماذا ألبستموه رداءً أحمر، ولماذا جلبتم هذا الثور ؟! ما معنى كل هذا يا أخي ؟
المهرج :كل هذا من أجل إثارة عاطفة الخوف، وتصعيدها إلى الدرجة القصوى.
الحمار : لم أفهم.
المهرج : للتخلص من هذه العاطفة: عاطفة الخوف، وعواطف أخرى مشابهة، جرثمت روح إنساننا. لا بد من تصعيدها بطريقة فعالة.
الحمار : ولكن..
المهرج : أف. كفى أسئلة، ودعنا نعمل. (لمساعده) هل كل شيء جاهز أيها الطبيب ؟
م.المهرج : نعم يا سيدي.
المهرج : واحد، اثنان .. ابدأ
(تنـزع العصابة عن عيني الثور. يجول الثور بنظراته في أرجاء المكان. يبصر جحا بردائه الأحمر، فيجأر
ويندفع نحوه بقوة، ينهض جحا ويركض بخوف)
جحا : ما هذا ؟! امسكوه .. سينطحني .. امسكوه. سيمزقني .. أرجوكم يا ناس ..
المهرج : اركض .. سيمزقك إن أمسك بك.
م.المهرج : ازفر بقوة وأنت تركض.
الحمار : لا تستسلم يا جحا. اركض.
جحا : امسكوه. سيبقر بطني. افعل شيئاً يا صديقي.
الحمار : احذر يا صديقي. الثور خلفك تماماً.
جحا : سأسقط. افعل شيئاً، أنقذني يا صاحبي. أنقذوني يا ناس .. النجدة.
(يركض وهو يلهث، الثور يلاحقه وهو يجأر، يسود الهرج والمرج)
الحمار : اخلع الرداء الأحمر يا جحا. اخلعه بسرعة.
جحا : أنقذوني ..
الحمار : اخلع رداءهم .
جحا : ماذا أفعل بالرداء ؟
الحمار : اخلعه بسرعة، ارمه عن جسدك .
(يحاول جحا خلع الرداء وهو يركض بهلع)
المهرج : ماذا تفعل يا مجنون ؟
م.المهرج : حذار يا حمار.
الحمار : اخلعه . هيا يا صاحبي.
المهرج : لا يا حيوان. لا تفعل ذلك، حذار.
م.المهرج : حذار يا جبان.
المجموع : - لا يا غبي.
_ لا يا متخلف.
_ عميل.
_ تابع.
_ أحسنت..
_ خائن.
_ ...
(يخلع جحا الرداء، تعلو الأصوات وتختلط. يرمي الرداء ويهبط إلى الصالة. يتجه نحو الخارج)
الحمار : جحا.
جحا : (لا يرد) ..
الحمار : إلى أين يا جحا ؟
جحا : (من الصالة) الوداع يا صديقي.
الحمار : الوداع ؟! إلى أين صاحبي ؟
جحا : سأعود إلى زماننا: أقصد إلى زمني.
(يهم بالخروج، يتأمل الحمار ما حوله بحيرة وقلق، يتردد، ينادي جحا)
الحمار : انتظر يا صديقي .
جحا : لن أنتظر لحظة واحدة .
الحمار : بل ستنتظر ، وقد يطول انتظارك كثيراً .
(يقف جحا في مكانه، يلتفت نحو الحمار باندهاش)
جحا : ماذا تقصد ؟!
الحمار : (بحزن وأسى ) ما كان عليك مغادرة زمن الحكايات. كان يجب أن تبقى هناك.
جحا : أنت السبب .لو لم تأت إلى هنا ..
الحمار : إنه زمني يا جحا. زمني الذي انتظرته طويلاً.
جحا : ( بضيق وألم ) أي زمن جاحد هذا ؟! حتى صديق مثلك يتنكر لصديقه ؟!
الحمار : ( بسخرية ) لا صداقات دائمة هنا، إنما....
جحا : إنما ماذا ؟
الحمار : دعك من هذا الكلام ما دمت تريد العودة إلى زمنك: زمن الحكايات الجميلة. فقل لي : كيف ستعود؟
جحا : سأعود كما جئت .
الحمار : ( يضحك) دخول الحمام ليس مثل خروجه يا سيد.
جحا : لم أفهم. هل هذا مثل أم قانون ؟
الحمار : لا يهم ماذا يكون. المهم هو أنك لن تستطيع الخروج من هذا الزمن بالسهولة التي تتوهمها.المسألة
تحتاج إلى حكاية:حكاية مثل الحكاية التي جئت منها.
جحا : والحكاية عند الراوي، الأمر سهل .
الحمار :لا ليس سهلاً ، لأن الراوي أيضاً أصبح حكاية قديمة. لكن اطمئن، لن نعدم الوسيلة .
جحا : كيف ؟
الحمار : ( بعد تفكير قصير ) كيف. كيف أيها الفهمان؟ (فجأة ) المسرح. هيا إلى المسرح .
جحا : المسرح ؟! وما هذا الذي اسمه مسرح ؟
الحمار : فن ساحر جميل. تروى الحكايات فيه عن طريق التجسيد، أعني : لا تسمع الحكايات فيه فقط، بل تشاهد أيضاً .
جحا : يا سلام ! لاشك أنه قبلة عشاق الحكايات الشائقة، ومورد العبر والعظات. لكن قل لي يا صاحبي. أقصد: يا من كنت صاحبي، كيف سيخرجني هذا الذي اسمه مسرح من هذا الزمن ؟
الحمار : إنها لعبته التي أتقنها منذ زمن. فاطمئن، إنه ساحر كما قلت لك، هيا .هيا نذهب إليه بسرعة.
جحا : (بسرور غامر ) هيا .
( يخرجان)