لم يعد الشحاذ "المتسوّل" هو ذلك العجوز المسكين الذي يجلس في الطريق ويتمتم بالأدعية للمارة حتى يفوز ببعض النقود ، فهذا الأداء أصبح قديما لايتماشى مع العصر الحديث وتقنياته فدور المتسول أصبح الآن مبتكرا وأكثر "اتيكيتا".
ففي عصر الفضائيات أصبح للتسول شكله الراقي والأكثر جاذبية ، فعن طريق رسائل الـsms يقوم المتسول بإرسال شكواه لتظهر على اسفل الشاشة وبجانبها رقم هاتفه المحمول الذي يقوم بشحن رصيده من مال "المحسنين"، وتتضمن رسائل الـsms الكثير من الشكاوى ، فهناك من يشكوى قلة حيلته لان والده محجوز بمستشفى ويريد غسيل كلى كل يوم وبحاجة إلى المال ، وهناك من تشكو ضعفها لان زوجها توفي وتركها وحيدة في هذه الدنيا ولديها أربعة أطفال يحتاجون إلى المال كي تحسن تربيتهم, وهناك أخرى يتيمة ستتزوج قريبا وتريد من يساعدها على تكاليف الزواج لكي تكمل دينها وتعف نفسها ، و..........الخ. والسؤال هنا كيف يكون هؤلاء في احتياج للمال وهم يمتلكون هذه التقنيات الحديث المرفهة " تليفزيون ودش وموبيل" ؟! ...
متسوّلة آخر موديل
فذات يوم استوقفتني امرأة ترتدي ملابس أنيقة تطلب مني أن أعطيها سبعة جنيهات من أجل الذهاب إلى محافظة أخرى ، بحجة أنها لم تعد تملك من المال شيئًا، فاقترحت عليها أن تطلب هذا المبلغ من أحد غيري لاني بحاجة إلى جنيها واحدا كي أعود لمنزلي فثارت في وجهي قائلة:" ألا تريدي أن تتصدقي من أجل مالك وصحتك"، فأقسمت لها أني لاأملك شيئا الآن ، ثم ابتسمت لها وطلبت منها حين الحصول المال بأن تأتي لي بجزء منه، فنظرت إلي شذرا ثم تركتني.
ثم وجدتها في اليوم التالي في نفس المكان وتطلب نفس المبلغ من أناس أخرى فاستوقفتها وقلت :" أنتِ لم تعودي لبيتك منذ أمس ألا تجدي أحدا يعطيكي السبعة جنيهات ، ثم نظرت إلي باستغرب جعلتني أشعر بحماقتي وقالت :" عن ماذا تتحدثي أنا لاأعرفك "، شعرت حينها أن أعراض مرض الزهايمر بدأ يتسلل إليّ مبكرا وفي لطف طلبت منها أن تبتعد عن هذا العمل وتترك مهنة التسول وأن تبحث عن وظيفة تعينها على المعيشة، وفي سخرية قالت لي " هذا أكل عيشي أرجوكي ابتعدي عني الآن".
استديوهات للتسوّل
"توفي والدي ولي ثلاثة أخوات وليس لنا مصدر دخل احتاج مساعدتكم .. يقول الله تعالى "وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" .. هذه ورقة مستطيلة الشكل تحملها طفلة صغيرة يبدو على ملامحها البراءة والشقاء وتقوم بتوزيعها على ركاب مترو الأنفاق الذي يمثل أحد أكبر استديوهات تمثيليات التسول ، وتقام به أفلام ومسلسلات تمتاز بالحبكة الدرامية وروعة الإخراج... وتوزع الطفلة نسخ من الورقة على الركاب دون أن تنطق بأي كلمة .. ثم تعيد مرة أخرى لتلملم اوراقها المطبوعة بالكمبيوتر ومعها بعض من أموال "المحسنين" .
وهناك من يحمل أوراق وتحاليل .. يرفعها في يده ويقسم "والله محتاج مساعدتكم .. أنا عندي مرض وبعمل تحاليل .. ومحتاج ثمن الدواء".
وحتى الميكروفون اصبح وسيلة للتسول، حيث استخدمتها أحد المتسولات حتى توفر مجهودها في رفع الصوت وتكرار الشكوى وطلب المساعدة .. ولم تستحي أن تستأجر سيارة تطوف بها في الشوارع لتقسم أمام الناس أنها مريضة وتحتاج العلاج ..
كنز من "الفكه"
ويقول علاء بشير معاون مباحث بأحد أقسام الشرطة :" من أحدث حيل التسول الآن أن يقوم المتسول بما يشبه التمثيلية يبدو من خلالها أنه ليس متسولا على الإطلاق بل إنه شخص ذو ظروف سيئة وحظ تعس ، مثلا تقوم بائعة للبيض بكسر بعض البيض ثم تصرخ وتلطم خديها لخسارة بضاعتها فيتجمع حولها الناس محاولين تهدئتها ويجمعوا مبلغا من المال لتعويضها". ويحكي بشير أنه ذات مرة استغرق عدّ "الفكة" التي تم ضبطها مع احد المتسولين 24 ساعة كاملة.
ويرى الدكتور حسني الجندي أستاذ القانون الجنائي بجامعة حلوان: " أن المتسول هو كل شخص ليس لديه وسيلة مشروعة لكسب الرزق وهو نوع من التشرد الذي يجرمه القانون ويعتبر من المهن الحقيرة التي يوظف فيها النساء والأطفال".
ويحكي حسني أنه رأى متسولا يتظاهر بأن ساقه مكسورة مرتديا شيئا اصطناعيا لكي يستجدي عطف الناس .. ثم قام رجل القانون بركله وصرخ "قوم أوقف" .. فتهامس الناس .. "حرام .. حرام" لكن ما حدث هو أن هذا المتسول قام على الفور بنزع الجبس الشكلي الذي وضعه فظهر كذبه أمام الناس.
وعن عقوبة التسول قال : "تدخل عقوبة التسول قانونيا في اختصاص شرطة الأداب وغالبا تكون غرامة مالية أوحكمًا بالحبس أو يوضع المتسول تحت المراقبة فإذا كرر التسول يتم حبسه".
إنسان غير سوي
وترى الدكتورة أماني السيد استاذة علم النفس بجامعة حلوان " أن المتسول يعاني من الشعور بالدونية إلى الحد الذي يجعله يسأل الناس فهو لايقدر ذاته تقديراُ عاليا بل أنه يحطم كبرياؤه ويتخطى كل مشاعر تقدير الذات"، موضحة أن المتسول ليس إنسانا سويا وقد يكون ضحية لظروف قاسية أو تربية خاطئة.
وأخيراُ .. هذا لا يعني أنه لا يوجد في مجتمعنا من يحتاج أو من هو فقير ، بل هناك الكثير من الفقراء، الذين هم بحاجة إلى جنيه واحد ، ولكن الحياء يمنعهم من اتباع هذه الأساليب السابقة للتسول لأن لديهم عزة نفس، وبالفعل أهل الخير لا يتركونهم بل يتصدقون عليهم وهم في أماكنهم. وقد وضع الدين الاسلامي حلاُ لمثل هذه المشكلات قبل مئات السنين وجعل الزكاة هي الركن الثالث من اركان الاسلام لتقف كحائط منيع أمام تيارات التسول.
لمواكبة التطور