المسيح"... والحواريون...
"يهوذا" الخائن يخبئ الشيطان خلف عينيه..
إنه (العشاء الأخير)
اللوحة التي تحمل آلامه. وتعبث بها في سعادة. رسم الصليب وهو يتمتم: (أيها الرب إلهنا لا تدخلنا في تجربة توقعنا في ظلمات غضبك..)..
منذ تركها والصورة لا تفارقه..
لاحظ الآن فقط أن ثمة شبها كبيرا بينه وبين "يهوذا"
"يهوذا" خان المسيح وهو خان قلبه حين خانها.. أليس محتملا إذن أن يدخل في الظلمات؟
مشكلته أنه لا يستطيع أن يبكي.. فقط يتطلع إلى لوحة العشاء الأخير ويرتعد ألما..
ترك منزله ونزل إلى الشوارع..
الصمت يقتله. والذكرى تحاصره بأسواط من الجحيم.
لمح محطة (مترو الأنفاق)..
لم يعرف لماذا دفعته أقدامه دفعا إلى الدخول لانتظار المترو الأخير في هذا الوقت المتأخر..
تباطأ (المترو) وهو يدخل إلى المحطة..
تباطأت نبضات قلبه وهو يخبرها أنه خانها في رحلة الأقصر وأسوان. وأننا جميعا نخطئ..
غضبت فتمتم "من كان منكم بلا خطيئة" ثم أردف "ألا تسامحين خطيئتي الأولى؟"
توقف (المترو) وفتحت الأبواب في بطء مستفز..
قالت إنها لن تسامح في الخيانة فلو كانت خانته ما كان ليسامحها..
رمته بحجر وهي تقول له: "لا أريدك"، قبل أن تتركه وتنصرف.
دخل إلى المترو قبل أن يغلق أبوابه ويتركه وينصرف هو الآخر..
العربة فارغة سوى من ذلك الذي يمسك بيده مصحفا ويقرأ من آيات الذكر الحكيم.
لم يعرف لماذا توجه إلى المقعد الذي يواجهه مباشرة قبل أن يجلس عليه.
كان سيبدو لأي شخص أنه يتابع قراءة القرآن الكريم على الرغم من هيئته التي لا تدل على الالتزام..
أغمض عينيه. حاول أن يطرد مرارة كلمتها الأخيرة من ذاكرته فسمع صداها يتردد في أشلاء مشاعره.
لا أريدك.. لا أريدك.. لا أريدك..
أخرج من جيبه الحافظة وراح يتلذذ بتعذيب نفسه مرة أخرى وهو ينظر إلى (كارت صغير) عليه لوحه (العشاء الأخير)..
"يهوذا" يخبره أنهما أصدقاء لدرجة أنه لا يريد أن يتركه وحيدا..
بانت على ملامحه تأثيرات عذاب شديد وهو يتطلع حوله في الفراغ والشاب الجالس أمامه يتابع قراءة القرآن..
تحرك المترو بعد أن أغلق أبوابه.
****
- ما الشيطان يا أبتاه؟!
- إنه مخلوق بغيض يا بني.. طرده الله من رحمته، وهو ملعون إلى يوم الدين، وعدو للبشر.
- كل البشر؟
- نعم يا بني.. كل البشر.. إذا كانوا بشرا!
بانت البلاهة على ملامح الطفل الصغير بعد سماعه الجملة الأخيرة إلا أنه صمت قبل أن يكمل تلاوة القرآن
****
المحطة التالية جاءت سريعا..
(حدائق المعادي)..
نظر إلى ساعته التي أشارت إلى الواحدة، واتجه بعينيه إلى خارج النافذة.
لمح أحد عمال المترو وهو ينظر نحو العربة التي يستقلها وقد تساقطت الشهوة من عينيه.
نظر إلى الأبواب وهي تفتح وبدا له أن هذا الجالس أمامه قد انفصل عن الحياة كلها وهو يواصل التلاوة.
صعدت..
تطلعت إلى المقاعد الخالية وتطلع هو إليها وإلى ملابسها التي كشفت أكثر مما أخفت..
نظرت إليه نظرة خاصة وهي تبتسم قبل أن تتجه نحوه. ونحو جاره الذي مازال يواصل تلاوته.
****
- هل هو شرير يا أبتاه؟
- من هذا؟
- الشيطان..
- طبعا يا بني.. أليس مطرودا من رحمة الله؟
ألم يصب الله عليه غضبه فلعنه إلى يوم الدين؟
- إذن فهو دميم الوجه..
- بل دميم الأفعال والوساوس..
- .........
- أقصد أنه من الممكن أن يجسد لك خطأك في صورة جميلة على عكس ما يريد.. تلك هي الغواية.
****
(تلك هي الغواية)
تمتم لنفسه وهو يختلس النظر إليها وهي قادمة نحوه لم تختر سوى المقعد الذي يجلس عليه والذي يتسع لمقعدين.. جلست بجانبه وتلامست الأجساد فجعلت من المقعد ذي المكانين قابلا أن يكون ذا ثلاثة.
العطر.. يااااه.. نفس العطر الذي يذكره برحلة الأقصر وأسوان.. عطر قوي ونفاذ لدرجة أن قارئ القران توقف للمرة الأولى ثوانٍ عن القراءة إثر المفاجأة والغريب أنه يحاول النظر إلى أبعد من المصحف الذي كان بيده.
أما الآخر فقد أغمض عينه قليلا وهو يتذكر.
*****
- هل وجد الشيطان من قبل في صورة بشرية يا (أبونا)
- الرب أعلم يا بني وإن ظهرت أفعاله في معاملات البشر ودنست وساوسه أنفسهم.
- إذن؟
- إذن فهناك بشر يحملون صفات شيطانية.. لم يرضَ الرب عنهم فساء تجربتهم وزين لهم الشهوات والمعاصي لأنهم في النار سوف يلقون.
*****
لمسة في ركبته جعلته ينتفض ويفتح عينيه في دهشة.
عاجلته قائلة: كم الساعة من فضلك؟
نظر إليها قليلا قبل أن يردد في آلية : "ليست في يدي ساعة وإن كنت أعتقد أنها الواحدة والربع"
بدا له أنها ستكتفي برده لولا أن واصلت حديثها قائلة: الجو حار، أليس كذلك؟
نظر إليها وإلى ابتسامتها..
اختلجت شهواته بمشاعر غضبه وراحت (لا أريدك) تتردد مرة أخرى و....
"كنت أقول إن الجو حار... أليس كذلك؟"
هل يندفع مرة أخرى إلى هذا الطريق..
ما المانع؟.. تركته وتركها... والآن تناديه أخرى..
ما المانع إذن؟ رد عليها وقد تغيرت لهجته الآلية.. "بلى.. إنه كذلك.."
توقف الآخر عن التلاوة وبدا وكأنه يستريح قليلا لولا أنه راح يتابع القراءة بعد أن حدجهما بنظرة سريعة.
قالت له : "لست أدري كيف سأحتمل هذا الجو حتى محطة المعصرة" . وابتسمت واحدة من تلك الابتسامات الخاصة وهي تستطرد:
"إنها محطتي.."
وبدا أن الحديث سيستغرقهما..
وربما أشياء أخرى.
*****
بسم الله الرحمن الرحيم "يأيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم" صدق الله العظيم..
*****
قديما قالها له والده: "انظر إلى الله..."
لم يرد.. بل ولم يفهمها في حينها فتابع والده: "قل آمنت بالله ثم استقم.."
لم ينسَ تلك الكلمات أبدا. ولكنه –على الرغم منه– أخطأ.
- جاء لوالده وقال: "أخطأت.."
- دمعت عينا والده وحاول أن يتماسك وهو يقول له في صرامة: "استغفر الله إذن ولا تعد إلى خطئك مرة أخرى.."
قال له:"الخطأ كبير يا والدي.."
رد أبوه: "رحمة الله وسعت كل شيء.. عليك بالقرآن والصلاة.. وأكثر من الاستغفار.."
ثم تركه والده وانصرف..
وبالتأكيد لم يلمح تلك الدمعة التي سقطت من عين أبيه.
***
"هل أنت طالب؟.."
سألته فأجاب: "أهذا ما يبدو على ملامحي؟"
ابتسمت..فأكمل: "نعم طالب بكلية الطب.."
(...لا أريدك...لا أريدك...)
أكمل بدون مناسبة: "وغير مرتبط"
نظرت في عينيه مباشرة وهي تقول له: طلاب الطب يحتاجون إلى فحص الأجساد.
"لا أريدك.. لا أريدك"..
اقتربت منه فجأة فارتبك قليلا خاصة وهي تهمس له في أذنه
"أريدك"..
وسرعان ما ابتعدت عنه وهي تردف: "ما رأيك لو تجولنا قليلا في المعصرة سنكون معا. وسننعم بلحظات خاصة..."
نظر إليها ولم يرد.
***
-"الروح هو الذي يحيا، أما الجسد فلا يفيد شيئا" (يوحنا60 – 63)
- هل تفهم يا بني؟
- أحاول يا أبونا.
***
محطة (ثكنات المعادي)
الخشوع.. والانتظار.. والرغبة..
واصل التلاوة
رسمت سيناريو ليلة لن تنسى
حاول هو أن يتخيل ماذا سوف يحدث...
لن يحدث شيء.. على الأقل هو الذي سيتركها
في الصباح وليس العكس.. لن يسمع منها "لا أريدك"
أغمض عينيه فرأى "يهوذا" يبتسم..
***
(الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر)..
****
محطة (طره الأسمنت)...
مازال يغمض عينيه..
نار تشتعل داخلها في انتظار أن يطفئها هو..
الاحتكاك بين عجلات المترو والقضبان يولد صوتا مزعجا يخترقه بنجاح صوت تلاوة آيات الذكر الحكيم.
فتح عينيه فوجدها تنظر إليه بدلال وهي تبتسم.
نظر إليها وتطلع إلى جسدها المتناسق قبل أن يبتسم في سخرية وهو يقول: "آسف.. لن أستطيع..."
تراجعت وهي تقول في ذعر: "ماذا؟!"
كرر: "لن أستطيع.. لن ألبي تلك الدعوة.. لا أريدك.."
نظرت إليه في غضب وتطلعت إلى قارئ القرآن الذي ابتسم ابتسامة خفيفة تلاشت مع مواصلته للتلاوة.
في حزم دفعها بصرامة وهو يتجه لمقعد آخر بعيدا عنها والآخر لا يزال يرتل القرآن ترتيلا.
في غضب قامت..تتمتم بسبهما..
توجهت نحو الباب وهي تنظر إليهما بغضب ودهشة حين ارتفع صوت هاتفه المحمول.
ظن في البداية أنها مجرد (ميسد كول) لولا أن الهاتف ألح..
توقف الشاب الآخر عن التلاوة بينما اتجهت يده هو إلى هاتفه المحمول.
تباطأ المترو وهو يدخل إلى محطة المعصرة..
تباطأت دقات قلبه وهو يسمع صوت المتحدث..
كانت هي.. وكانت تقول: "أنا آسفة.."
دمعت عيناه وهي تكمل: "أحبك..ولهذا فقط سأسامحك معتبرة أنه الخطأ الأول والأخير.."
ابتسم...
أبواب المترو تفتح.
تنظر إليهما لمرة أخيرة قبل أن تتركهما ويبتلعها الظلام.
نظر إلى الشاب الآخر وهو يتابع مرة أخرى تلاوة القرآن، بينما أنهى المكالمة في سعادة.
اتجهت يده لا شعوريا إلى الحافظة.
أخرجها وتطلع إلى الكارت الصغير الذي يحمل لوحة..
(العشاء الأخير)
لم يكن "يهوذا" في الصورة
وكان "المسيح" يبتسم.
رسم الصليب والآخر يكمل القراءة في خشوع: "يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم. لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.. إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون"..
سورة المائدة – آية 105