استيقظت من نومها على رنات هاتفها المحمول ، فاسرعت يدها بلهفة اليه لتلتقطه ، لم تتمهل كي ترى اسم المتصل على شاشة الهاتف ، فالنغمة المخصصة قد قصرت الوقت وقضت على فرضية التخمين ، انها من الساكن الجديد ، تهللت اسارير وجهها بالفرح ، وعلت وجنتيها حمرة السعادة الوردية ، أجابته بصوت رومانسي يخفي بين حروفه تكلف عجيب وتصنع رهيب ، لا ينم عن حالتها وخروجها من نوم عميق .
استرسلت في حديثها معه واستوقفت عقارب الساعة ، فلا تدري كم مضى عليها من الوقت في هذه الحالة الحالمة وكأنها لم تستيقظ بعد من نومها . ايقظتها من حلمها مرة اخرى نبرات حبيبها طالبا لقياها الآن في معرض السلع الاستهلاكية ، فتغير لون وجهها وأصابها الهلع ، فقد مضت على هذه العلاقة أشهر ، ولم يلتقيا يوما الا على الشبكة العنكبوتية ، ولم يرى كل منهما الآخر رأي العين . نجحت بحكمتها ودهائها كل مرة بين تسويف ووعود باللقاء في الوقت المناسب ، الا أنه لم ييأس أو يمل من طلبه وعاود الكرة مرة بعد مرة وهدد بانهاء هذه العلاقة . بائت كل محاولاتها بالفشل أمام الحاحه واصراره ، فقد نفذت من جعبتها كل الحيل والعلل و لم تجد مناصا من الرضوخ لطلبه ، ووافقت على مقابلته ، الا أنها استمهلته بعض الوقت لتنهي أعمالها المنزلية ، وأرجئت اللقاء الى السادسة مساءا.
أغلقت الهاتف وفزعت من سريرها الى خزانة ملابسها تسابق الوقت الذي يمضي أسرع من تلك المحادثة مع الساكن الجديد . ظلت شاخصة العين تبحث عن شيئ مفقود ، بين فساتين وبناطيل ، قمصان وتنانير ، تزاحمت الأشكال بين يديها، واختلطت الألوان أمام عينيها ، وزادت حيرتها واضطرابها ، أخذت من خذانتها ما استقرت عليه يداها وارتدته ، ثم نذعته واستبدلته ، مرات ومرات ، بين طويل وقصير ، بين ساتر ومكشوف ، بين شاذ ومألوف ،حتى أعياها الاختيار ، وهدها التكرار . فارتدت شيئا لم تستطع أن تميز لونه .
نظرت الى ساعة الحائط ، وقد اقتربت من الثالثة ، فهبت الى مرآتها ، تخاطبها في صمت :
الفتاة : انه أول لقاء لصاحبة البيت مع ساكنه الجديد وأخشى أن لا يستهويه مظهره وألوانه أوتقسيمة أركانه فيغادره كرفاقه
المرآة : دعي المظهر والألوان وتقسيمة الأركان ، وانظري الى سعة غرفاته ، الى صوت الطيور تغرد على شرفاته ، دعيه يتجول في حديقته وطرقاته ، ويقطف منها ورود الوفاء وزهور الصدق والاخلاص
الفتاة : قد يكون ممن تبهرهم ألوان الجدران والستائر ، ولا يبالي بما تحتويه السرائر ، أو مفتون بالأضواء الامعة والزخارف الرائعة ، أخاف أن يتجول بين ردهات البيت فتقع عينه على ما يقدح جماله
المرآة : ان كان من هذا النوع من السكان ، فلا حاجة لك به ، فلا يسكن بيتك الا من يستحق ، ولا تتكلفي في وصف البيت وتزيينه ، ولا تعدي بما لا تملكي ، ولا تحدثي بما لا تدركي
الفتاة : سوف أقوم باضافة بعض اللمسات ، وأغير بعض الألوان ، فالحاجب يحتاج الى تنميص ، والأسنان الى تفليج
المرآة : سوف تتساقط الألوان بمرور الأزمان ، ويتجلى قبح الجدران ، ويلوذ الساكن الى بيت جديد ، فأكرمي خلقة ربك ، واكملي مكارم أخلاقكالفتاة : عجيب أمرك ايتها المرآة البالية ، ان كان الأمر كما تظنين ، فلا فائدة من وجودك بيننا .
المرآة : احذري أن تقدمي معصية الله قربانا لرضى البشر
دوت ضحكات الفتاة في أركان الغرفة ثم عبست وبصرت الى ساعة الحائط وتصاعدت على قسمات وجهها علامات الارتباك ، فالوقت يمضي بسرعة عجيبة . شرعت الى أدوات التجميل المتناثرة أمام المرآة ، تصبغ وجنتيها باللون الأحمر الخفيف ، كلا انه دموي مخيف ، لعل الأقل درجة أفضل لمثل هذه البشرة ، حتى نفذت جميع درجاته بلا فائدة ، التقطت اللون الوردي الداكن وتأملته كثيرا ، فكان أكثر بشاعة ، مرت مرارا وتكرارا على جميع الألوان ، فلم تجد فيها الا السخرية والاستهزاء من المرآة ، تركت وجنتيها وقد تداخلت الألوان عليها ، ومضت على حاجبيها لازالة ما بدا لها من سوء تناسقه ، أزالت منه الكثير والكثير عن الشمال وعن اليمين ، فقدت اتزانها وارتعدت فرائصها ، فالحاجبين أصبحا كخط القلم في نحافته نظرت الى وجهها في المرآة فأصابها الهلع ، وبحثت على سطح مكتبها في هستيريا عن زر التراجع عن أمر تخفيف الحاجب ، لقد فقدت السيطرة على أعصابها ، وظنت أنها تغير خلقتها ببرنامج الرسام ، ولا عجب فعلاقة الحب كانت ببرنامج مشابه في سهولة الاستخدام ، اقتربت الساعة من الرابعة ، وقد أفسدت ما أنعم الله به عليها من جمال طبيعي ، حاولت مرة أخرى اصلاح ما أفسدته من حاجبيها بالقلم الأسود ، فازداد الأمر سوءا ، اختلطت عليها الألوان فلم تعد تفرق بين الأبيض والأسود ، وتساقط على جسدها الطلاء والمساحيق ، حتى عمت الفوضى على وجهها وملابسها . نظرت الى عقارب الساعة وهي تشق بصوتها المدوي صمت الغرفة وتسابق دقاتها دقات قلبها . انتقلت رغما عنها الى عالم آخر غريب ، تقرع فيه ضحكات المرآة أذنيها ، نظرت الى وجهها في المرآة في فزع شديد ، فوجدته يضحك بشكل هستيري ، مدت يدها مرة أخرى الى وجهها لتنظيفه وهي تطالع في المرآة ، الا أن المرآة لم تستجيب ليدها ، لقد أصبح المشهد في المرآة معزولا عن الحقيقة ، تحرك رأسها فلا تتحرك في المرآة ، تتساقط الدموع من عينيها ، فتزداد المرآة ضحكا وسخرية .... لقد تمردت عليها مرآتها .
أشارت عقارب الساعة الى السادسة ، وهي سجينة هذا العالم الغريب ، تمردت عليها الألوان ، سيطرت عليها الأوهام ، ... تصارع بيمينها المرآة ، وبيسارها عقارب الساعة ، تحاول ألا يفلت الوقت منها ، فالحبيب بالانتظار ، وأعصابها في انهيار ، غادرت عقارب الساعة السادسة الى السابعة في لمح البصر ، دقت رنات الهاتف رأسها ، تلك النغمات التي عشقتها قبل ساعات ... انطلقت في رعب لتغطي وجهها ، فهي تخشى أن يراها الساكن الجديد على هذه الحالة ... ترددت في الرد وتحيرت ، الا أنها استجمعت ما بقي لها من قوة ، وطلبت منه أن لا يرحل ، وعاودت المحاولة مرة أخرى مع المرآة ... بلا طائل ، كانت تنظر تارة الى المرآة وأخرى الى الهاتف خوفا من معاودة الاتصال ... خرت أمام المرآة واسترحمتها ... فازدرادت نظرات السخرية اليها حدة ، فقدت سيطرتها على كل شيء ، فألتقطت زجاجة العطر وقذفتها بعنف في المرآة. فتناثرت قطع الزجاج في كل مكان ، الا أن صورتها مازالت حية متجسدة أمامها ، وقد سالت على وجهها الدماء ، وظل الهاتف يدق مرات ومرات ، حتى تغيرت نغمتة في أذنها الى عويل وبكاء